مقال

رؤى ومحطات الفاشر مقبرة الغزاة – بقلم خالد قمر الدين

مرت وتمر حرب الكرامة هذه بمحطات كثيرة، من ضمنها الفاشر، ولكن الفاشر محطة غير عادية، ليس لقوات الشعب المسلحة والمقاتلون بجانبها، وإنما للجنجويد. هذه الظاهرة القديمة اللعينة التي لطالما عانت منها الفاشر قديماً وحديثاً، وكأني بها تنتفض لكبريائها وكرامتها وتحاربهم بكل ما أُوتيت من قوة، حتى برياحها وأمطارها وذرات رمالها وتاريخها التليد.
%D8%B1%D8%A4%D9%89%20%D9%88%D9%85%D8%AD%D8%B7%D8%A7%D8%AA%20%D8%A7%D9%84%D9%81%D8%A7%D8%B4%D8%B1%20%D9%85%D9%82%D8%A8%D8%B1%D8%A9%20%D8%A7%D9%84%D8%BA%D8%B2%D8%A7%D8%A9%20 %20%D8%A8%D9%82%D9%84%D9%85%20%D8%AE%D8%A7%D9%84%D8%AF%20%D9%82%D9%85%D8%B1%20%D8%A7%D9%84%D8%AF%D9%8A%D9%86 20240617 103801 %D9%A0%D9%A0%D9%A0%D9%A0
هذه المعارك التي اختاروها هم، كما أن الحرب بدأوها هم، صادف أن جاءت في الزمان والمكان المحددين كما تشتهي الفاشر وتهوى. مدينة قديمة ومعتقة بشهامة النسيج الاجتماعي والمكون التاريخي لها. هي ليست زالنجي، وليست الجنينة، وليست نيالا أو الضعين، ليس تقليلاً من شأن هذه المدن ومواطنيها الشرفاء الوطنيين، ولكن الوطنية نفسها عندما يممت وجهها تجاه الغرب احتضنتها الفاشر، وعندما قلّبت وجهها في السماء كانت قبلتها الأخيرة الفاشر. يكفيها أنها كانت ولا زالت عاصمة إقليم دارفور التاريخية ورمزيتها الحضارية، منذ ما قبل حكومات مستر مور وسلاطين باشا ومحمد بن عمر التونسي.
فاشر السلطان لن تذل ولن تهان لشرذمة قطاعين طرق (قطاعين محافض)، وهي جمع محفظة تصنع من الجلد قديماً ولا تزال يحفظن فيها النساء نقودهن ويضعنها عبر حبلها في أعناقهن ويدخلنها في صدورهن ـ على قول دفعتنا وصديقنا العزيز أبو القاسم إبراهيم محمود ـ وخاسرين رهان. ربما لا يعرف الكثير من الناس في بلادي أن الفاشر لوحدها قادرة على تغيير أنظمة في دول جوار السودان الغربي، ولا أذيع سراً إن قلت لكم حدث وفعلتها الفاشر فيما مضى، وهي لا تزال قادرة أن تفعلها الآن. دعك من هؤلاء الغزاة البغاة الذين بدأوا يتساقطون كأوراق التوت هنا وهناك في أسوارها وحواريها.
الفاشر يكفيها فخراً أنها أنجبت شجعاناً أمثال عادل الفكي، كاباكا الحاكم أباكا، عبد القادر منصور، وغيرهم. حُق للكابلي أن يقول عنهم (عندنا الغرب رجال في إهاب الأُسد والأُسد غضاب). هذا غير أنها تمثل تحدياً حقيقياً لكل من حاول إمساك عصا الحرب من النص وحتى المتخاذلين الذين حسبوا أنهم في مأمن وبمنأى عن حماقة الجنجويد، حتى أتاهم اليقين بدخول الحرب في (اللحم الحي) على حد تعبيرهم، مما جعلهم بكل ألوان طيفهم يهبوا هبة رجل واحد إلى أسلحتهم مرددين في غضب وتحدي (جيداً جيتو). ليس بقدر ما كرر الهالك علي يعقوب وهو يتوسل فزع جنجويده إليه في الفاشر في أواخر أيامه، لأنها تمثل لهم حرب بقاء، وإنما بصورة أكبر هذه المدينة العريقة تمثل حرب بقاء لكل أهل المدينة وأهل دارفور وكل من استجار بها وظن أنه آمن. وهو كذلك، يجب أن تظل الفاشر قوية ومتماسكة وشامخة شموخ قصر سلطانها وفرقتها السادسة والخير خنقا وحجر قدّو وبوابة جيداً جتو. وجيداً جيتو يالدعامة، هنا الفاشر، هنا مقبرة الغزاة.